فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب إليه ما لم يقل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ} أو كذب ما قاله جل شأنه.
والاستفهام للانكار وقد مر تحقيق ذلك {أولئك} إشارة إلى الموصول.
والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ.
وما فيه من معنى البعد للايذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب {يَنَالُهُمُ} أي يصيبهم {نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب} أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب.
وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة من المفسرين.
وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر.
ومثله عن مجاهد.
وعن أبي صالح ما قدر من العذاب.
وعن الحسن مثله.
وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ.
ومن لابتداء الغاية، وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من {نَصِيبَهُمْ} أي كائنًا من الكتاب.
{حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا} أي ملك الموت وأعوانه {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي حال كونهم متوفين لأرواحهم وحتى غاية نيلهم وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله:
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

وقيل: إنها جارة.
وقيل: لا دلالة لها على الغاية وليس بشيء.
وعن الحسن أن المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر.
وكان الذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى: {قَالُواْ} أي الرسل لهم {أَيْنَ مَا الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات {قَالُواْ ضَلُّواْ} أي غابوا {عَنَّا} لا ندري أين مكانهم فإن هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجيء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي.
و{مَا} وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلة لا تصلت.
{وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي اعترفوا على أنفسهم.
وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف {إِنَّهُمْ كَانُواْ} في الدنيا {كافرين} عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا حيث اتضح لهم حاله، والجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر.
ويحتمل أن تكون عطفًا على {قَالُواْ} وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه.
والاستفهام على ما ذهب إليه غير واحد غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب.
وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران ولا تعارض بين ما في هذه الآية وقوله تعالى: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الأحوال شتى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ باياته أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}.
الفاء للتّفريع على جملة الكلام السّابق، وهذه كالفذلكة لما تقدّم لتُبيِّن أنّ صفات الضّلال، التي أُبهم أصحابُها، هي جافة بالمشركين المكذّبين برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام فإنّ الله ذكر أولياء الشّياطين وبعض صفاتهم بقوله: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} [الأعراف: 27] وذكر أنّ الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتّبعوا من يجيئهم من الرّسل عن الله تعالى بآياته ليتّقوا ويصلحوا، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التّكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النّار، فقد أعذر إليهم وبصّرهم بالعواقب، فتفرّع على ذلك: أن من كَذَب على الله فزعم أنّ الله أمره بالفواحش، أوْ كَذب بآيات الله التي جاء بها رسوله، فقد ظلم نفسه ظُلمًا عظيمًا حتّى يُسْأل عمن هو أظلم منه.
ولك أن تجعل جملة: {فمن أظلم ممن افترى} [الأنعام: 144] إلخ معترضة بين جملة: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 36] وجملة: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة، وقد تقدّم الكلام على تركيب: {من أظلم ممن} عند قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} في سورة البقرة (114)، وأنّ الاستفهام للإنكار، أي لا أحد أظلم.
والافتراء والكذب تقدّم القول فيهما عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة العقود (103).
ولهذه الآية اتّصال بآية: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] من حيث ما فيها من التّهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله.
ومن استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق، المعبّر عنه بمَن افترى على الله كذبًا.
ومن الثّانية موصولة، وهي عامة لكلّ من تتحقّق فيه الصّلة، وإنّما كانوا أظلم النّاس ولم يكن أظلمُ منهم، لأنّ الظلم اعتداء على حقّ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى، وأعظم الاعتداء على حقّ الله الاعتداءُ عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم، وذلك بأن يكذّب بما جاءه من قِبله، أو بأن يَكْذِب عليه قيبلِّغ عنه ما لم يأمر به فإنْ جَمَع بين الأمرين فقد عطّل مراد الله تعالى من جهتين: جهة إبطال ما يدلّ على مراده، وجهة إيهام النّاس بأنّ الله أراد منهم ما لا يريده الله.
والمراد بهذا الفريق: هم المشركون من العرب، فإنّهم كذّبوا بآيات الله التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أنّ الله أمرهم به من الفواحش، كما تقدّم آنفًا عند قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} [الأعراف: 28].
وأو ظاهرها التّقسيم فيكون الأظلمُ وهم المشركون فريقين: فريق افتروا على الله الكذب، وهم سادة أهل الشّرك وكبراؤهم، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون، مثل عَمْرو بن لُحَيّ، وأبي كَبْشة، ومن جاء بعدهما، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية، وفريق كذّبوا بآياتتٍ ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين، من أهل مكّة وما حولها، وعلى هذا فكلّ واحد من الفريقين لا أظلمَ منه، لأنّ الفريق الآخر مساوٍ له في الظلم وليس أظلَم منه، فأمَّا من جمع بين الأمرين ممّن لعلّهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أمورًا من الضّلالات، وكذّبوا محمّدًا صلى الله عليه وسلم فهم أشدّ ظلمًا، ولكنّهم لمّا كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم النّاس، وهذا كقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله} [الأنعام: 93]، فلا شكّ أنّ الجامع بين الخصال الثّلاث هو أظلم من كلّ من انفرد بخصلة منها، وذلك يوجب له زيادة في الأظلميّة، لأنّ كلّ شدّة وصف قابلة للزّيادة.
ولك أن تجعل أو بمعنى الواو، فيكون الموصوف بأنّه أظلم النّاس هو من اتّصف بالأمرين الكذب والتّكذيب، ويكون صادقًا على المشركين لأنّ جماعتهم لا تخلو عن ذلك.
شيء باسم الإشارة في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} ليدلّ على أنّ المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناءً على ما دلّ عليه التّفريع بالفاء.
وجملة {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} يجوز أن تكون مستأنفة استئنافًا بيانيًا ناشئًا عن الاستفهام في قوله: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا} الآية، لأنّ التّهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السّامع أن يَسأل عمّا سيلاقُونه من الله الذي افتروا عليه وكذّبوا بآياته.
ويجوز أن تكون جملة: {أولئك ينالهم نصيبهم} عطف بيان لجملة: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 36] أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب.
وتكملة هذه الجملة هي جملة: {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} الآية كما سيأتي.
ومادة النّيل والنّوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللّغة، غير مفصحةً عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائيّ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأنّ ذلك نشأ من القلب في بعض التّصاريف أو من تداخل اللّغات، وتقول نُلْتُ بضمّ النّون من نال يُنول، وتقول نِلْت بكسر النّون من نال يَنِيل، وأصل النّيْل إصابة الإنسان شيئًا لنفسه بيَده، ونوّله أعطاهُ فنال، فالأصل أن تقول نَال فلان كسبًا، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأنّ النّصيب من الكتاب هو أمر معنوي، فمقتضى الظّاهر أن يكون النّصيب مَنُولا لا نَائلًا، لأنّ النّصيب لا يُحصِّل الذين افتروا على الله كذبًا، بل بالعكس: الذين افتروا يحصلونه، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} [الحج: 37] وقوله: {سينالهم غضب من ربهم} [الأعراف: 152]، فتعيّن أن يكون هذا إمّا مجازًا مرسلًا في معنى مطلق الإصابة، وإمّا أن يكون استعارة مبنيّة على عكس التّشبيه بأن شبّه النّصيب بشخص طالب طِلبة فنالها، وإنّما يصار إلى هذا للتّنبيه على أنّ الذي ينالهم شيءٌ يكرهونه، وهو يطلبهم وهم يفرّون منه، كما يطلب العدوّ عدوّه، فقد صار النّصيب من الكتاب كأنَّه يطلب أن يحصِّل الفريق الذين حقّ عليهم ويصادِفهم، وهو قريب من القلب المبني على عكس التّشبيه في قول رؤبة:
وَمَهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه ** كأنّ لَوْنَ أرْضِهِ سَمَاؤُه

وقولهم: عرضتُ النّاقة على الحوض.
والنّصيب الحظّ الصّائر لأحد المتقاسمين من الشّيء المقسوم، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {أولئك لهم نصيب مما كسبوا} في سورة البقرة (202)، وقوله: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} في سورة النساء (7).
والمراد بالكتاب ما تضمَّنه الكتاب، فإن كان الكتاب مستعملًا حقيقة فهو القرآن، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده، مثل قوله تعالى آنفًا: {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 36]، وإن كان الكتاب مجازًا في الأمر الذي قضَاه الله وقدّره، على حدّ قوله: {لكل أجل كتاب} [الرعد: 38] أي الكتاب الثّابت في عِلم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنّه قدّره لهم من الخلود في العذاب، وأنّه لا يغفر لهم، ويَشْمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثمّ استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفًا بقوله: {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34].
وحمل كثير من المفسّرين النّصيب على ما ينالهم من الرّزق والإمهال في الدّنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله: {فمن أظلم} ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلاّ ليكون نوال النّصيب حاصلًا في مدّةٍ ممتدّة ليَكون مجيء الملائكة لتَوَفِّيهم غاية لانتهاء ذلك النّصيب، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقيّة في حتّى.
وذلك غير ملتزَم، فإنّ حتّى الابتدائيّة لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره.
والمعنى: إمّا أنّ كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه، فنصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه، وإمّا أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قُدر لأمثالهم من الأمم المكذّبين للرّسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدّنيا، فلا يغرنّهم تأخير ذلك لأنّه مُصيبهم لا محالة عند حلول أجله، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذّبت بها الأمم.